خاص ل ” رويبورتاج بقلم الأستاذ ( إبراهيم قرادة ) سياسي- سفير وكبير مستشارين سابق بالأمم المتحدة
ليبيا في قلب لعبة الجيوبوليتيك والديمغرافية .. بين استهداف التوطين وتشكيل الديمغرافية ورسم الخريطة.
في البداية، يستلزم الأمر تقديم صورة نصية عن واقع الهجرة، قبل تناولها من زوايا وجودية ومصيرية.
لو الإمام الخطيب، وفي امتدادات مدينة طرابلس الكبرى الجنوبية، أثناء صلاة الجمعة، يظن المرء أنه ليس في ليبيا، حيث أغلب المصلين غير ليبيين من خلفيات عربية مشرقية وافريقية جنوبية وآسيوية شرقية. مشاعر متداخلة بين فرحة التناغم الإسلامي وخوف الغربة في الوطن.
من أقاصي صحراء الجنوب إلى ضفاف البحر،أحياء في المدن والقرى الليبية في غربها وشرقها كأنها ليست ليبية، لحد تجنب دخولها مع غياب الشمس، رجال ونساء وأطفال وشيوخ، لدرجة انتظامهم في شبكات تنسق أعمالهم وتوفر احتياجاتهم وتيسر مصالحهم من توفير السلع وإجراء التحويلات المالية.
وبالمثل، قطاعات ومهن إنتاجية صناعية وزراعية وورشية وخدمية ومنزلية يسيطر على المهاجرين، لدرجة مشاهدة استعانة بعض مؤسسات الدولة بهم كعمالة في النظافة. تدخل بيوت او محلات او ورش او مقهى او تنتظر صديق او تاكسي ستجد أن عدد الليبيين يقل، وما تبقى من ليبيين فهم إما في سياراتهم المتلاصقة ازدحاما او في المقاهي “يهدرزوا” وفي المحلات يساومون كثيرا ويشترون قليلاً.
الهجرة لم تعد مسألة أمنية ومجتمعية واقتصادية فقط، بل تراكمت لتكون قضية مصير ووجود.
صحيح، إنها ليست حديثة حيث تعود إلى فترة النظام السابق، لكنها زادت بوتيرة متصاعدة في العشر سنوات الأخيرة، لتنفجر بوضوح خلال الفترة الأخيرة بسبب انقسام الدولة، والتحارب الأهلي، وسعة البلاد (1.64 مليون كيلومتر مربع)، وطول الحدود البرية (4350 كم)، وقلة السكان (تقريباً 7.5 مليون نسمة) يتركز أكثر من 95٪ منهم في منطقتين على ساحل المتوسط (البالغ طوله 1770كم)، بتصنيف بأن ليبيا ذات دخل في الشريحة العليا من الدول ذات الدخل المتوسط، حسب تصنيف البنك الدولي. مقابل ان كل دول الجوار الشرقية والغربية والجنوبية تصنف بأنها أقل دخل من ليبيا.
هذا التفاوت في الدخل الاقتصادي هو أحد أسباب الهجرة إلى ليبيا او عبرها، فليبيا ذات 7.5 مليون نسمة، يسكن حول حدودها السداسية 264 مليون نسمة، وإذا أضفنا دول مصدرة للمهاجرين كنيجيريا ومالي يتصاعد العدد إلى 510 مليون، أي أن هناك 68 مجاور محتمل الهجرة مقابل كل مواطن ليبي- الخريطة المرفقة تبين عدد سكان القارة الأفريقية.
وبجانب التفاوت الاقتصادي والسكاني الذي يضغط ويدفع بالهجرة نحو ليبيا، هناك “عوامل” متشابكة مؤثرة في الهجرة نحو ليبيا منها انتشار التوترات والصراعات والعنف المجتمعي والانقلابات، والجريمة المنظمة والإرهاب والتسلح، والتدخلات الخارجيّة واستغلال الثروات، والتصحر والإجهاد المائي والفقر الغدائي، والبطالة وشبابية المجتمعات وزيادة معدلات النمو السكاني، في اغلب دول المصدرة للهجرة والمحيطة بليبيا. وتبلغ نسبة التطابق في العوامل المذكورة أعلاه أنه يمكن استخدام نفس الخريطة لأي عامل من العوامل، مع تحويرات.
القارئ لما سبق قد يفند تلك المقدمة طالباً الدليل.
بالتأكيد، ان هناك قصور احصائي في حصر وتسجيل المهاجرين غير النظاميين من قبل السلطات الليبية، لقصورها بسبب انقسامها واختلال أولوياتها نتاج ذلك، وبسبب ضراوة الزحف المهاجري الكاسح. غير أنه يمكن الاستعانة ببعض الأرقام والمؤشرات لبيان جسامة القضية وجديتها.
ففي حديث لوزير الداخلية المكلف بحكومة الوحدة الوطنية قدر عدد المهاجرين في ليبيا بـ 2.5 مليون مهاجر- 80% منهم غير نظاميين، وهذا رقم كبير. يمكن مقارنته بأرقام المهاجرين الذين أحصتهم وسجلتهم منظمة الهجرة الدولية (IOM) والذي تجاوز في النصف الأول من 2024 رقم 725 ألف مهاجر غير نظامي، مع ذكر أن المصادر الإيطالية التي قدرت المهاجرين الذين أبحروا من ليبيا نحو بـ 50 ألف مهاجر. وأن السلطات الليبية سفرت واعادت اكثر 10 آلاف مهاجر من ارضيها.
الفرق الرقمي بين تقديرات الداخلية الليبية وبين إحصاءات منظمة الهجرة الدولية، قد تعود أهم بواعثه إلى صعوبة الحصر لأن جل المهاجرين غير النظاميين دخلوا ليبيا بطريقة غير قانونية وأن أغلبهم يخططون للهجرة غير النظامية إلى أوروبا، وبالتالي يتفادون التصريح والتسجيل. والأرجح هو التقدير الليبي، والذين إذا أسقطناه على مصفوفة منظمة الهجرة الدولية وتقديرات الداخلية،يمكن بناء الخلاصة التالية منها:
عدد المهاجرين في ليبيا= 2.5 مليون مهاجر، منهم 2 مليون مهاجر غير نظامي، أي (80٪) من سكان ليبيا، المواطنون (7.5 مليون)، ومع المهاجرين (2.5 مليون)= 10 مليون، بنسبة مهاجرين 25٪.
ظاهريا، يمكن تقييم النسبة بأنها غير مقلقة.
لكن هناك 2 مليون مهاجر غير نظامي، أي 20٪ من السكان، وهي نسبة الخمس، وهي مؤشر محذر، من الجوانب الأمنية والمجتمعية والاقتصادية، وبالتالي السياسية.
لأنه حسب مصفوفة منظمة الهجرة الدولية، 21٪ من المهاجرين يعانون من البطالة، أي أكثر من نصف مليون مهاجر. وهؤلاء سيبحثون عن سبل العيش بطرق مختلفة، قد تضطر بعضهم إلى الجريمة، أو الاستغلال من عصابات الجريمة المنظمة.
وحيث ان نسبة المشتغلين حوالي 79٪ اي قرابة 2 مليون، وإذا اعتبرنا متوسط الأجرة الشهرية 1500 دينار أو كمدخرات شهرية 1000 دينار، أي 12 ألف دينار سنويا او ما يقدر بـ 2000 دولار. سيقوم المهاجر بتحويلهم إلى أهله في بلده أو للمهرب (رحلة التهريب تكلف ما بين 3000 و10000 دولار، حسب طول خط ومحطات الرحلة، من شرق اسيا او من الجوار الليبي).
أي مبلغ التحويلات الدولارية السنوية تقدر بـ 4 مليار دولار في السنة. وهذا الرقم يقارب 17٪ من إيرادات ليبيا الدولارية من النفط، والتي بلغت 23 مليار دولار السنة الماضية 2023.
وبجانب هذا النزيف الكبير، يشارك المهاجرون المواطنين الليبيين في مقدرات معيشتهم من غذاء وكهرباء ووقود ومرافق، دون دفع ضرائب ورسوم. مما يساهم في الضغوط التضخمية على الأسعار والطلب الاستيرادي والطلب على العملة في السوق الموازي.
قضية الهجرة كبيرة ومتشابكة ويصعب حصر تناولها في ورقة مختصرة واحدة. فهي أضحت “أزمة” شائكة ليس ليبياً فقط، وبل اقليميا وعالميا، غير أن خطورتها على ليبيا جدية ووجودية للعناصر المذكورة، مع اضافة التوجه الصارم ضد المهاجرين في دول الجوار القريبة، مهدداً بتزايد المهاجرين نحو ليبيا وعبرها.
وباعتبار أن أغلب المهاجرين إلى وفي ليبيا يأتون من خمس دول، بالترتيب هي: النيجر، مصر، السودان، تشاد، ونيجيريا، تبرز مخاوف التوطين بقوة، سواء كان ذلك بصورة رسمية مفروضة من دول ومنظمات، أو بحكم الأمر الواقع عبر طول وقت التوطن والنزوح في ليبيا.
مما يجعل التأخر في معالجة “قضية الهجرة” هو نوع من الإهمال الانتحاري، وهذه المعالجة يجب وجوبًا على المستوى الواعي المدرك والحازم وطنياً وإنسانياً، بعيداً عن عن الأدوية المسكنة المؤقتة وخطاباتها البلاغية المتبخرة.